الخميس، 19 أبريل 2012

ورقةالياناصيب..

16 مارس 2012

ورقةالياناصيب....
هو رب اسرة مكونة من ستة ابناء ثلاثة منهم فتيات جميعهن ينتظرن اليوم الذى تحلم به كل فتاة والاولاد الثلاثة اصغرهم فى مرحلة الثانوية واكبرهم يعمل بشهادة الدبلوم ....اما الاوسط فمازال يتخبط فى الدراسة الجامعية....

تجاوز الاستاذ صابر التاسعة والخمسين من عمره .....يعمل فى وظيفة ادارية بمحكمة الاستئناف العالى بالقاهرة .....لا يملك دخلا الا راتبه الضئيل ....وكذا ذلك القدر البسيط الذى يعطيه ابنه الاكبر لامه شهريا من عمله الذى بدأه منذ عامين فقط .......
يعترف صابر أفندى انه لولا مهارة زوجته كريمة وحسن ادارتها لخرب البيت ...فقد استطاعت ان تأقلم حياتهم على ذلك القدر البسيط من الدخل ومنه قامت بتعليم الاولاد على قدر مار غبوا فى العلم .....ومنه كانت تصرف على علاج من يمرض منهم .....ومنه كانت تحاول جاهدة ان تنوع لهم فيما تقدمه من اطعمة.....يذكر صابر افندى ذات مرة من تلك المرات العديدة التى ضاق بهم الحال فيها ...شكواه لها قلة المال وزيادة طلبات الاولاد ......قالت له باسمة:
أوعى تحمل هم حاجة ...أنا عاملة حسابى على كل شىء....
ولما استفسر منها عن ذلك ...رددت عليه بانها تتدخر قدر ما تسمح به الظروف بضعة جنيهات كل شهر....واخرجت من رف دولابها كيسا من القماش منتفخ قليلا وملفوف على نفسه واشارت اليه به ضاحكة ....
كانت تمر الاذمة دون ان يشغل باله بها كثيرا وكأن تلك الزوجة الحبيبة اراحته من هذا العناء ....حتى كان ذات يوم وقد عاد مبكرا على غير عادته من العمل وكان يهم بفتح باب الشقة اذ به يسمع زوجته تكلم اخرى بالقرب من البالب بالداخل ......كانت تشكرها مستعطفة اياها ان تمهلها بضعة ايام حتى تدبر لها المبلغ الذى اقترضته منها....تفاجأ بالحديث واخذيفكر فيه ثم اسرع الى الشارع حتى لا تراه المرأتان اذا فتحتا الباب ...
كتم الامر عن زوجته وتحين فرصة وكانت خارج حجرتهما ففتح دولابها وبحث عن ذلك الكيس المنتفخ ثم فتحه ليجد به كمية من اوراق الجرائد وقد طويت داخله .....
بكى الرجل وحمد الله ان رزقه مثل هذه الزوجة التى تحمل عنه كل تلك الاعباء غير شاكية والتى تريق ماء وجهها فى الاقتراض من جاراتها دون علمه حتى لا تشعره بالحاجة او تؤذيه بكثرة الطلب.......
كم هى عظيمة .....حتى الان لم يخبرها انه علم بسرها وكان يبتسم كلما ضاق بهم الحال فتنظر اليه باسمة وتشير الى الدولاب تذكره بأنها مازالت تدخر ما يكفيهم .....
كانت حياتهم تمر على مثل هذا المنوال حتى فترة قصيرة عندما تقدم رجلان اليه يطلبان الزواج من بنتيه الكبيرتين .....
بدأت هنا الافكار السوداء والمشاكل تهاجمه من كل حدب وصوب ......
لقد اتم التاسعة والخمسين من عمره منذ اربعة اشهر وهو على ابواب الاحالة للمعاش ....
كيف سيوفى متطلبات زواج ابنتيه وكيف سيستمر دخلهم بعد المعاش حيث سينخفض عما هو عليه الى الثلثين ....؟؟
كانت المقهى التى تطل على مبنى دار القضاء بشارع 26 يوليو هى المأوى له بعد ساعات العمل مع بعض زملائه ...يتجاذبون معا الحديث والفضفضة عما يثقل صدورهم ....ينفخون مع انفاس الدخان من الشيشة تلك الهموم التى تنوء بها قلوبهم ....
اقبل عليهم ذات مرة رجل فقير يبيع اوراق الياناصيب ...ألح عليهم مستعطفا اياهم ان يبتاعوا بضعة ورقات ....الكل رفض .....الح الرجل باكيا........نهره احد زملاء صابر .....الرجل يرجوهم انه واسرته لم يأكلوا منذ الصباح .....رق قلب صابر افندى للرجل فقال له :
هات ورقة واحدة بس ....هى بكام .؟؟
اجاب الرجل : بخمسة جنية بس يا بيه .......متاخدلك اتنين ينوبك ثواب ...
رفض صابر الا ان يشترى واحدة فقط .....وضعها فى جيبه وهو يتمتم ....هاعتبرهم صدقة عندك يارب........
......................................................................مرت عدة ايام وصابر افندى على محاولاته فى طلب مد خدمته لسنة اخرى ولكن الرفص هو ما يلقاه دائما ....اشتدت الحالة ضنكا والحيرة قد نالت منه تماما...
كان متوجها الى المقهى مع بعض الزملاء كالعادة واذا بالجرسون فيها يقبل عليه مسرعا مهللا ....صابر افندى ..صابر افندى ....
فزع من الرجل ...تسألت قسمات وجهه قبل ان ينطق ...الجرسون يلتفت الى داخل المقهى وينادى احدا ....ثم يقول اهو صابر افندى جه اهو.....
يأتى ذلك الرجل الفقير صاحب اوراق الياناصيب مسرعا وجهه فرحا سعيدا فيلقى بنفسه بين ذراعى صابر افندى الذى ادهشه الموقف ثم بدأ لثوانى يستوعب ما يدور حوله وقد تذكر شكل الرجل الفقيىر......
امسك به ابعده الى الامام وهو يستحلفه بصوت لم يعد يتحكم فى مخارجه من شدة الانغعال ......انت عايز تقول......عايز تقول ...ان انا كسبت فى ورقة .....الياناصيب ؟؟؟
الرجل يضحك هازا راسه موافقة وكلمة الف مبروك لا تتوقف من فمه..
بلهفة ممزوجة بالدمع والفرح سأله صابر : هى الجايزة كام يا وش الخير؟؟
رد الرجل : ميت الف جنيه ......
كاد يغشى على صابر افندى ......التف كل من فى المقهى حوله يهنئونه..وكان مشهدا لا يوصف ...اترك لخيالكم الخصب تخيله .....
.................صابر ينهب درجات السلم الى شقته كما لم يفعل منذ ثلاثين سنة.....ينادى زوجته واولاده فرحا .....باب الشقة يفتح وتخرج زوجته ...متلهفة فزعة فيلقاها بالاحضان ووسط دموع الفرح يقص عليها هى والاولاد ماحدث وما وهبهم الله اياه .....
الكل يرقص طربا وسعادة والقبلات تغمر الجميع...فجأة سأل صابر :
فين الجرايد اللى كانت جنب السرير ؟؟؟؟قال ذلك وهو يهرول الى حجرته باحثا ......
الزوحة تسأله وغصة تشق حلقها ....:
عايز منها ايه ياصابر ؟؟؟
يلتفت اليها قائلا :
انا كنت بقرأ فيها من كام يوم وفاكر انى حطيت الورقة في جرنال منها فبل ما نام ........هى فين بقى .....؟؟؟
وقعت المرأة الطيبة مصفرة الوجه على الارض .....اسرعوا اليها وجلين .....صابر مرعوب من المشهد يخاف ان يسأل زوجته ما الامر .....قالت بصوت واهن ودموعها تشق خديها :
انا بعت الجرايد امبارح لبتاع الروبابكيا .....
وقعت الكلمات عليهم وقع الصاعقة ......الذبح صمتا هو ما اصابهم ....صوت بكائها فقط ما يشق ذلك السكون ....تمتمتها بالاسف والاعتذار ......هزات راسها كانما تنفى عن نفسها جرما .....
اقترب منها صابر وكل العيون تترقب .......ركع على ركبتيه امامها يحتضن راسها بكفيه ...قال :
لا حول ولا قوة الا بالله ....بطلى عياط ياكريمة .....انت ماعملتيش حاجة غلط ...ماكنتيش عارفة ان فى ورقة ...ربنا مش قاسمها لينا .....
مازالت تبكى ....بدأ الاولاد يهونون عليها....وفجأة قال صابر :
يمكن لسه فيه امل ياولاد ......
التفت الجميع اليه ....استطرد .....اول حاجة نروح نبلغ فى البنك اللى هاينسحب منه ونعمل محضر بشهادة الرجل الفقير ....وتانى حاجة ندور على بياع الروبابيكيا ....نسأل عنه البوابين واصحاب المحلات يمكن نعتر فيه ........
سكت الجميع ....يعلمون عدم جدوى ما قاله والدهم ....
مرت الايام التالية وصابر يجوب الشوارع ......يبحث عن الرجل ...الجميع يخبره انه على فرض ان وجده فكيف سيجد الجرائد ؟؟
الف احتمال انها بيعت لاى محل ام مزقت او وقع الجرنال المنشود ....
تغيب صابر عن العمل ....صار يخرج صباحا ولا يعود الا ليلا .....ما عاد يكلم احد .....حتى الطعام لا يتناوله الا نادرا.....اثرت الصدمة فيه حتى لم يعد يواظب على الصلاة فى وقتها ولم يعد يقرأ القرآن كما كان دائما ....
صحته من سيء الى اسوء .......الجميع يتجنب الحديث معه او امامه...
رجع ذات ليلة وكان يجر قدميه جرا ....دخل الى حجرته ....ودخلت زوجته خلفه مغلقة الباب برفق .....اقتربت منه ...وضعت يدها الحانية على كتفه..وهمست له : استغفر ربك ياصابر .....انت اتغيرت قوى ....مش هى دى الصورة اللى تختم بيها مشوارك فى الدنيا مع ربنا ......فين ايمانك بالله .......قوم اتوضى وصلى لربنا وادعيه يفرج همك ......
كلماتها الحنونة تمسح احزانه ....نظر اليها دامع العينين .....قبل يدها وقام.....خرج وتوضىء وجاء لحجرته فصلى باكيا خاشعا لله ....انتهى من صلاته فتمدد على السرير ومد يده الى المذياع الصغير الى جواره ففتحه..
كانت اذاعة القرآن الكريم فى تلاوة لعبد الباسط فى قصار الصور.......
كم كان صوته روحانيا .......ان مع العسر يسرا .....ان مع العسر يسرا....
قال صابر افندى .....صدق الله العظيم ....سامحنى ياربى ....ومد يده اسفل وسادته ليمسك بالمصحف الشريف الذى ابتعد عنه ....
وما ان فتحه حتى هب واقفا صارخا بفرح .......الورقة .......الورقة اهه....ورقة الياناصيب.................

.........................تمت..................

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق