الخميس، 19 أبريل 2012

قبلة الملائكة...

18 مارس 2012


قبلة الملائكة...


الوقت بعد الفجر بقليل .....
المكان حجرة مظلمة الا من مصباح صغير ذا اضاءة صفراء باهتة ...
يقف رجل وسط مجموعة من الرجال مادا ذراعيه يمينا ويسارا...فى حين انهمك اثنان منهم فى وضع احزمة المتفجرات حول جسده وضبطها جيدا.
رجل اخر يقف بالقرب منه ...يتحدث اليه ....
تذكر ...ان ضبط النفس هو اهم شىء .....كون هادئا .....لا تفكر فيما حول جسدك.....لا تظهر قلقا .....كو طبيعيا حتى لا تلفت اليك الانظار ...اقرأ ايات القرآن وانت فى طريقك....عند اللحظة المناسبة اهمس لنفسك بالشهادتين واضغط بقوة على جانب الحزام الناسف .....
مازال يقف صامتا يستمع والرجلان ينهيان تركيب المتفجرات على جسده.
المهمة الموكلة اليه ...تفجيرنقطة الحراسة الاسرائيلية الشديدة على حدود بلدته .....
هكذا طلب منهم والح منذ تطوع ضمن كتائب الاستشهاديين.....قال انه لا يريد تفجير اى مكان أخر غير هذه النقطة بالذات ....
استمر تجهيزه بدنيا ونفسيا لهذه اللحظة اكثر من اربعة اشهر .....
تعلم كيف يحافظ على هدوءه فى اشد الحالات انفعالا ....تعلم كيف يتعايش مع اصوات الانفجارات وطلقات الرصاص وهى تدوى بالقرب من اذنيه ....
تعلم كيف يمشى محملا بحمل وزنه ستة كيلوجرامات ملفوفين حول جسده دون ان يبدو عليه اختلاف ما في سيره او تظهر بوادر التعب فى قسمات وجهه....
يوميا كان يقول لهم خلال تلك المدة انه جاهز وعلى اتم الاستعداد....وكانوا يبتسمون له رابطين على كتفه ان انتظر....
الليلة حانت اللحظة المنتظرة ......
بعد صلاة العشاء امروه ان ينام........وعند الفجر اوقظوه......فصلى معهم وبدأت التجهيزات....
انتهت عملية اعداد الاحزمة الناسفة الثلاثة حول وسطه وبطنه وصدره..
كما انتهت عملية ارتداءه الملابس العسكرية كجنود الاحتلال بالضبط..
كان قد طلب منهم ان تكون المتفجرات من اشد وافتك الانواع ...انه يريد ان يدمر اكبر عدد ممكن من اولئك الصهاينة السفاحين ......قالوا له اطمئن انت حول جسدك متفجرات اقوى من دانتى دبابة فى الانفجار ....
بدأت خيوط النهار وتباشيره تظهر كاشفة تفاصيل المكان اكثر ....
هيا يابطل فموعد تغيير وردية الحراسة على النقطة الهدف بعد ساعة واحدة .....امامك طريق طويل ستقطعه سيرا.....تكلم الرجل قائد المجموعة....
على بركة الله ..........قال هو
سلم على المحيطين به وقبلوا راسه مشجعين ....تبادلوا معا الشهادتين..
ثم انطلق مغادرا ........
تقضى الخطة ان يسير بعيدا عن الانظار من عدة طرق متعرجة اسفل حضن الجبل ثم وسط الاعشاب والصخور حتى لا يكشفه احد والى ان يصل الى اقرب مكان لنقطة الحراسة مع دخول السيارتين اللاتين تحملان اعداد الجنود القادمين لتغيير الحراسة وعددهم ثلاثين جنديا .....فعند تلك اللحظة عليه ان يجرى مسافة عشرة امنار حتى يكون بالقرب من السيارتين ويتم العملية ......
بدأ رحلة السير ...كان الجو يلفه ضباب كثيف وشبورة تخفى معالم الطريق .....هذا هو اليوم المناسب كما حددوه هم حتى يجد من عوامل الطبيعة ساترا له بعد توفيق الله .....اخذ يقرا القران اثناء سيره .....وبين الحين والاخر يدعو الله .....اللهم وفقنى ........اللهم تقبل منى ......
اب لاسرة مكونة من زوجتين وثمانية ابناء ثلاثة من زوجة وخمسة من الاخرى.....مات منهم اثنين ....ابنه الاكبر ذو العشرين عاما .....كان يعده للزفاف على ابنة عمه ....واذا به يعود قبل اليوم المحدد بيوم واحد يحمله اصدقاءه على اعناقهم قتيلا ......
كان ضمن مجموعات الشباب التى تقاوم جنود الاحتلال وترشقهم بالحجارة عندما اطلقت احدى دبابات الاحتلال قذيفتها المدمرة فدمرت المنزل الذى كان الفتية يختبئون بالقرب منه ......اصابته الشظايا فى راسه وصدره ....كان نصف راسه العلوى منسوفا وبقايا المخ متناثر منه والدماء تلطخ الجسد كله ........
بكى بحرقه ولده الاكبر .....غسله بدموعه ووسط صراخ امه واخوته اقسم ان ينتقم له .......
لم تمر اياما واشتدت ضربات الصهاينة لبلدته فى قطاع غزة ....كان ضمن المقاتلين الذين يتصدون للعدوان الغاشم الفاشى.....قوات العدو تكتسح البلدة بالمجنزرات والاسلحة الثقيلة تمشطها تماما بعد عملية وقعت من بعض رجال البلدة خلفت مقتل جنديين فقط ....
الضربات تتوالى لكل من يراه الجنود .....سعار القتل وشهوة الدماء لديهم لا تفرق بين شيخ وامرأة او طفل ورجل ....
اقتربت الانفجارات من مسكنه ...كان بعض الابناء خارج المنزل جرى مسرعا ليجمعهم صارخا عليهم ......دوى الطلقات يخترق الجو بالقرب منه.....يرى ابنته مريم ذات الثلاثة سنوات تجرى فزعة والرعب يعرقل خطواتها الصغيرة ......ينادى عليها جاريا تجاهها .....مريم ....مريم ...
تراه الطفلة ....فتجرى عليه ...تقع متعثرة .......صوت الدبابات يزئر كأشد الحيوانات ضراوة......تنهض الصغيرة وتعاود الجرى .....مريم ...مريم ....يجرى باشد ما تمكنه قدماه .........اقترب منها ........يمد يديه جاريا عليها ......الحقنى يابابا ........بابا .........تنطلق رصاصة الغدر لتخترق ظهر الصغيرة ...فتنبثق الدماء من صدرها لتلطخ وجهه ويقع الجسد النحيل البرىء امام قدميه ........
لم يجف دمعه منذ ذلك اليوم .....تطوع ضمن استشهادى المقاومة....هذه النقطة اللعينة على طرف البلدة هى هدفه ومقصده ...
حاول البعض ان يثنيه عن هذا الاختيار بحجة حاجة باقى ابناءه اليه ....اجابهم ....قد تركت لهم بعد الله امرأتين كل منهما بمئة رجل......
الطريق يتعرج به ....بعض الضباب يغلفه ساترا اياه ......يحفظ هذه المنحنيات كخطوط كفيه ....حتى الصخور يمر عليها كأن قدميه تعرفها جيدا .....اقتربت النقطة وشبحها يبدو على البعد وسط الغيوم وشىء من الشبورة .....تحسس بهدوء جسده متمتما ......كن معى يا ربى ....
كان كل ليلى اذا اسلم للنوم عينيه يتمنى ان يرى مريم فى منامه ....لكن النوم المضطرب المتقطع لا سيبل للروح فيه .......كان يبكى من ذلك اشد البكاء .......اللهم امنحنى القوة .....اقترب زاحفا وسط الحشائش ......... تلقى الرياح بعض الاصوات اليه .......يستمر زاحفا تجاه النقطة من جانبها الايمن ........يارب ......دقات قلبه بدأت تتزايد .......يزحف على الارض كأنما يحتضن ترابها لاخر مرة ......صوت السيارتين الموعودتين يزمجر مقتربا .........نهض على ركبتيه ....الصوت يقترب اكثر .....تلفت حوله يرى من عساه يراقب من الجنود ........السيارة الاولى تظهر قادمة .........يالله ...لوجهك الكريم .......السيارة الثانية تظهر هى الاخري ......فداك فلسطين الحبيبة........الجنود يقفزون من السيارتين.....وجنود اخرون يقتربون منهم........من اجلكم ابنائى ......اشهد الا اله الا الله .....واشهد ان محمد رسول الله .....
وضع قبضة يده على موضع التفجير فى الحزام الناسف وقام مهرولا باقصى سرعته تجاه الجنود .........اقترب .....اقترب ....بعض الجنود يلمحه......بقى مترين ....الجندى يرفع بندقيته تجاهه ويهم يالصراخ محذرا ...
يضرب هو بقبضة يده الحزام صارخا ...الله اكبر.....تنطلق الطلقة فى اتجاهه....لم ينفجر الحزام .....يقع على الارض من اصابة الطلقةلفخذه ....الذهول يسيطر علىه لثوانى ...الجنود فى لحظة ارتباك .....يضرب الحزام بقيضته ثانيا .......لا ينفجر ....البعض ينقض عليه .......ربى لا تجعل موتى هباءا ........استطاع وسط اجساد من تدافع عليه ان يصل الى مسدس احدهم ....يمسكه وسط لكمات تنهال عليه وايادى تحاول شل حركته ......صوبه الى قلبه .......يضغطون عليه .....يصرخ ...يارب....
ينفجر المكان بكل ما ومن فيه ............
السماء زرقاء صافية وازهار وورود عطرة تملاء الارض وصوت ضحكات رقيقة كأنها موسيقى سماوية ....ها هى مريم فى حلة بيضاء كالنور وشعرها يتطاير خلفها تجري اليه ضاحكة ووراءها اطفال كالشموس نورا .....القت بنفسها بين ذراعيه وطبعت قبلة على خده باسمة وهى تقول...... ...........شكرا أبى..

...........................تمت.................

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق